النهر هو المفتاح الصحيح لفهم طبيعة التركيبة الطبقية التي سادت مصر بداية من عصر ما قبل الأسرات أي من أربعة ألاف سنة قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي
نهر يمتد في الصحراء بطول ألف كيلو متر تقريبا، يفيض مرة واحدة في السنة حاملاً معه طبقة خصبة من الغرين تزيد خصوبة الشريط الزراعي على جانبيه، استلزم ذلك ميلاد شكل مركزي للسيطرة على الفيضان والقيام بما نسميه في الأدبيات الزراعية " الأشغال العامة" من شق الترع والمصارف وتنقيتها وبناء السدود والجسور .... إلخ وليس غريبا أن تكون مصر من أولى بلاد العالم التي كونت وحدتها السياسية قبل فجر التاريخ في حين أن ألمانيا مثلا أو إيطاليا لم يحققا الوحدة إلا مع بدايات الثورة الصناعية
وهذا الشكل أو النمط ليس خاص بمصر فقط بل نما في أغلب البلاد النهرية مثل الهند والصين وهو ما جاء في الأدبيات الماركسية الكلاسيكية تحت مصطلح " نمط الإنتاج الشرقي " لكني أفضل مصطلح النهري بما أن النهر هو مفتاح الفهم لهذا النمط
في هذا النمط تمتلك الدولة الممثلة في رأس الحكم غالبا الملك كل أرض البلاد يعيد توزيعها كل فترة من الزمن في شكل مقاطعات يحكمها الأمراء وممثلي الملك من حكام الأقاليم وبشكل مواز استلزم بناء مؤسسة كهنوتية حازمة ومركزية أيضاً يكون فيها رأس السلطة هو الكاهن الأول وأبن الإله وينوب عنه الكاهن الأول في المعبد لقيادة الصلوات وخدمة المعبداليوم يسمى هذا الشكل بـ " نمط الإنتاج الأسيوي "، وهو على خلاف أنماط الإنتاج التي ظهرت في أوروبا قبل ظهور الرأسمالية لم يكن الفلاح في مصر عبدا لسيده ولا للأرض كما في المجتمع العبودي والإقطاعي بل كان الفلاح حر في ظل العبودية المعممة
مشكلة هذا النمط أنه يعيد إنتاج نفسه بعد كل انتكاسة بدون إحداث أي تركم لتنمية البلاد، فقد كان يجلس على قمة الهرم الاجتماعي في مصر القديمة الملك ابن إله الشمس رع الجالس على عرش حورس وكان جسد الهرم عبارة عن شبكة معقدة من الموظفين والكهنة والكتبة تمثل العمود الفقري لجهاز الدولة وفي قاعدة الهرم مئات من المشتركات القروية المنفصلة عن بعضها تنتشر في الدلتا وفي الصعيد، وهي وحدات مؤسسة على الاكتفاء الذاتي بالجمع بين فلاحة الأرض والرعي والصيد والعمل الحرفي اليدوي، ذات مسحة خفيفة من التمايز الاجتماعي كانت هذه المشتركات القروية الأساس الاقتصادي لنمط الإنتاج السائد في مصر القديمة فمن هذه الوحدات الإنتاجية تحصل الدولة على الفائض من الإنتاج في صورة ضريبة سنوية تستنزف بشكل كامل في سد نفقات الدولة من البلاط إلى تجمعات العمال في المقابر الملكية مروراً بجنود الجيش والجهاز البيروقراطي الضخم وكهنة المعابدوتقسيم العمل داخل المشترك هو الذي أفرز بالسليقة المكانة التي حصلت عليها المرأة في مصر الفرعونيةفللجميع مكان في منظومة العمل وبالتالي حق من الإنتاج وبالتالي الحقوق المدنية على عكس المجتمعات البدوية بالطبع وقد تم قولبة وهيكلة جميع أجهزة الدولة مثل الجيش والشرطة وطوائف العمال والمعابد والجهاز البيروقراطي وفقا لهذا النموذج وتقوم الدولة المركزية " المشترك الأعلى " بمهمة التنسيق بين كل هذه المشتركات وحمايتها وتنظيم الري وتنظيم توزيع الفائض. تمتع أفراد المشتركات القروية بهامش معقول من الحريات الشخصية الدينية والاجتماعية والملكية الخاصة، لكن المشتركات نفسها كانت في حالة تبعية مطلقة للمشترك الأعلى أي الدولة (العبودية المعممة) والتي تمثلت إلى جانب دفع الضريبة في مد الدولة المركزية بالجنود وبالعمالة اللازمة لمشروعات الري والعمل في المناجم وبناء المعابد والمقابر
وبعد أن كان الفائض يستخدم في بناء المقابر والمعابد اصبح بعد انهيار الدولتين الفرعونية والبطلمية ينزح للخارج تحت الحكم الروماني ثم البيزنطي فيما بعد
وقد حافظ كل الغزاة على هذا النمط بوصفة الأفضل لتحقيق أكبر قدر من الفائض وقد حافظ العرب سواء أثناء الحكم الأموي أو العباسي أو الفاطمي أو الأيوبي أو المملوكي وأخيرا تحت الحكم التركيهذا الشكل العام للمجتمعولأهمية جهاز الدولة البيروقراطي في ضبط الأمور ومراقبة الأوضاع وتنظيم العمل ودوره في التنسيق بين المشتركات أولت الدولة عناية كبيرة بهذا الجهاز والذي ضم الآلاف منهم في تراتب هرمي ولعب توريث المهنة داخل الأسرة الواحدة دور في صمود هذا الجهاز طيلة هذه الأعوام الغابرة ومما حال دون إحداث حراك رأسي في المجتمع فهناك أسر ظلت تعمل أجيالها في الهيكل الوظيفي والكهنوتي مئات السنين فصارت لهم أخلقيات يتوارثها الأبناء عن الأباء وهكذا لذا فلا عجب أن أغلب التراث المكتوب الذي وصلنا كتب بأقلام هؤلاء الكتبة من الموظفين والتي تدور حول مهنة الكاتب والموظف والأخلاقيات التي عليه التحلي بها اي أنها تعكس فقط رؤيتهم لشريحتهم الاجتماعية من جهه وكذلك رؤيتهم للشكل والكيفية التي يجب أن تكون عليها الرعية من جهه أخرى
أما ما كان يحدث في المشتركات فمعلوماتنا ضئيلة جدا، مع إستثناء واحد وهو ما حدث في مدينة العمال في دير المدينة حيث وجد وبالصدفة كم من النقوش دونت من قبل الموظفين لكن بتكليف من العمال نظير أجر وشملت على العديد من عقود الزواج وعقود عمل للخادمات وحقوقهن وكذلك تفاصيل كل كبيرة وصغيرة في المدينة التي دونت من قبل الشرطة هناك، لكن وفي العموم مجتمعات العمال والفنانيين في مناطق البناء والتشييد كانت تجمعات ذات وضع خاصوالقليل من العناصر الأدبية الاخرى والتي وصلتنا أيضا عن طريق هؤلاء الكتبة كانت في الأصل تدريبات على الكتابة وأهملت ووصلتنا بمحض الصدفة
حتى الأخبار التي وصلتنا عن التجمعات العمالية في مناطق تل العمارنة في المنيا ودير المدينة في غرب طيبة، جميعها كتبت بأيدي هولاء الموظفين بوصفها تقارير ترفع للوزير الأول والملك، أي أن هذا التراث الذي بين أيدينا من أكبر معبد لاصغر بردية هو تعبير عن طبقة الحكام في مصر القديمة ولا شأن لغالبية الشعب المصري من الفلاحيين والحرفيين بهذا التراث
ومما يزيد الالم هو ما وصلنا من العصر القبطي حيث غلبت عليه سير رجال الكنيسة ومعجزاتهم إلى جانب تاريخ أباء الكنيسة حيث كان القلة من قساوسة الدير هم من يملكون حق التدوين، لكن تفاصيل الشارع المصري في المدينة وفي المشتركات غائب تماما